رواية ظافر وسيرين كاملة عشق لا يضاهى بقلم الكاتبة أسماء حميدة الفصل 187

لمحة نيوز

الفصل 187
كانت الغرفة ساكنة بصمت عتيق كأنها صندوق ذاكرة أغلق منذ دهر وأعيد فتحه على حين غفلة عبق الماضي يطفو من كل زاوية ذلك العطر القديم ذلك الأثاث الذي لم تغيره الأيام وتلك الذكريات التي لم تمح مهما طال الغياب كل شيء هنا كان ينتمي إليه إلى والدها 
وكانت هناك وسط تلك الأطياف صورة لم تكن كأي صورة كانت هي مرسومة بأنامل أب أحبها حتى تفاصيل ظلها 
اقتربت سيرين بخطوات مترددة تكاد لا تلمس الأرض وكأنها تخشى أن توقظ شيئا نائما تحت التراب ووقفت أمام اللوحة وشهقت بصوت حبيس 
عشرون عاما كانت ترتسم على قماش اللوحة هي بفستان أبيض تجلس على الشرفة ممسكة بباقة من الزهور تبتسم في صمت طفولي 
كم تشبهها وكم تبعد عنها الآن مدت يدها ببطء ولامست سطح اللوحة بأطراف أناملها المرتجفة كما لو كانت تلامس شبح أبيها نفسه 
تمتمت سيرين بصوت متهدج أشبه بأنين
ظننت أنني لن أراها مرة أخرى 
كانت تلك الصورة أغلى من أن توضع في مزاد فبعد وفاة والدها تساقط كل شيء فقد فشلت سارة وتامر في الإمساك بالإرث وتفتت البيت والشركة تهاوت وكل شيء عرض للبيع حتى الذكرى وآخر شيء كانت تتوقعه أن ظافر هو من سيعيدها إليها 
ظل واقفا خلفها يراقب ارتجاف ملامحها بصمت مشوب بالعاطفة ومن ثم اقترب منها خطوة ثم قال بصوته الخفيض
يمكنك أن تعيدي كل شيء إلى القصر 
لم يكن يريد

استعادة الصورة إو باقي المقتنيات بل أراد استعادتها هي بكاملها كأن هذا البيت القديم وهذه الذكرى هما الممر السري إلى قلبها 
نظرت إليه بعين يملؤها الامتنان لكنها مشوبة بالحذر
شكرا لك 
فابتسم هو ابتسامة باهتة وقال بنبرة نصف ساخرة نصف مكسورة
فقط لا تثيري نوبة غضبي مرة أخرى وسأمنحك كل ما تريدين 
شحب وجهها قليلا وغاصت نظرتها في ظلمة لم تفصح عنها لكنها أومأت برأسها دون رد 
ثم أخرج من جيب سترته بطاقة سوداء وناولها إياها دون أن يرمش
استخدميها كما تشائين 
كانت تلك البطاقة من نوع لا يمنح إلا لصفوة النخبة لكنها لم تر فيها سوى قيد جديد فنظرت إليها ببرود ثم قالت بهدوء
لست بحاجة إلى هذا لدي مالي الخاص 
توقفت يد ظافر في الهواء كأن الزمن نفسه توقف معها وبعد لحظة صمت ثقيل قال وكأنه يحاول تبرير خطأ لم يرتكبه
لكننا زوجان أليس كذلك هذه بطاقة مصروفك هكذا يفعل الأزواج 
كانت تلك طريقته المرتبكة في التعبير عن رغبته بالبقاء بأن يجعلها تشعر أن المكان لها وأنه هو أيضا لها لكنها لم تجب بل أخذت البطاقة بفتور لا قبولا ولا رفضا بل كأنها تأخذ شيئا ستتركه لاحقا على طاولة النسيان 
هو لم يكن يعلم أنها لم تلمس فلسا واحدا من الأموال التي خصصها لها منذ زواجهما لم يكتشف ذلك إلا بعد أن رحلت لكن الآن بعد وعدها له بالبقاء شهرا لاحظت شيئا آخر في
ظافر فهو لم يعد رجل الأعمال البارد الذي لا يقترب إلا حينما يريد بات يعانقها كل صباح يمسك يدها دون سبب ويقبلها في كل مساء وكأن شيئا ما ينكسر داخله كلما ابتعدت 
شهر لكنه بدا وكأنه زواج حقيقي له حرارة الأيام الأولى ونبض الغيرة وطزاجة المشاعر التي ولدت متأخرة 
وبعد أن قضيا ثلاثة أيام في مقاطعة سان عادا إلى المدينة سويا وكأن شيئا ما لم ينكسر بعد 
وصلت عقارب الساعة إلى الثامنة مساء حين توقف ظافر عند ضفة النهر حيث اصطفت الأرواح الباحثة عن لحظة هروب من صخب الحياة في انتظار عرض الألعاب النارية الذي طالما ارتبط في ذاكرتهم بالدهشة والبهجة العابرة
وكانا هما أيضا هناك وسط الحشود واقفين جنبا إلى جنب في تلك اللحظة العابرة بدا وكأنهما مرآة لزوجين يحترفان السعادة أمام الغرباء نظراتهما ساكنة قريبة تكاد تخدع من يراهما بأن بينهما حياة من الطمأنينة لا هزائم فيها 
ارتفعت شرارات الضوء إلى السماء وتفتحت أزهار النار فوق رؤوسهم كأنها اعترافات ملونة لا تحتاج إلى كلمات 
رفعت سيرين عينيها إلى الأفق المضيء لكن قلبها لم يكن هناك بل كان في داخلها يضج بكلمات لم تنطقها بعد 
كانت رغبتها ملحة ملتهبة كعود ثقاب على وشك الاشتعال أن تخبره أن تبوح له بأن نوح هو ابنه أن تلقي بالحقيقة في حضنه كما يلقى الطفل الأول بين ذراعي أب لا يعلم بوجوده 
لكن صوت
الهاتف شق اللحظة كخنجر بارد إذ رن هاتف ظافر فكان اسم دينا يتوهج على شاشته كجرس إنذار يوقظ كل هشاشات الحلم 
لم تكن سيرين تدري ما الذي قالته له لكنها رأت عينيه تتبدلان وفمه يضيق بقلق لم تعرف مصدره وها قد بدأ يهم بالرحيل فرفعت يدها باندفاع ومنعته وهي تقول بصوت خافت لكنه غاضب كما لو كانت تحاول الإمساك بما تبقى من الكرامة
ألم تقل إن لا أحد سيقاطعنا خلال هذه الأيام
أجابها وهو يبعد عينيه عنها
سنتحدث عندما أعود 
لكنها تمسكت بكم قميصه كأنها تحاول التعلق بلحظة تنفلت بكلمة ستموت قبل أن تولد
فكر جيدا إذا غادرت الآن فلن أفي بوعدي 
وعدها بأن تبقى بأن تمنحه شهرا كاملا كزوجة وعد كان أشبه بخيط رفيع في العتمة وها هي تهدده بقطعه 
توقف للحظة وهو يتنفس بعمق ثم قال دون أن ينظر إليها
دينا حالتها حرجة الأطباء يحاولون إنقاذها في العناية المركزة سأطلب من أحدهم أن يعيدك إلى المنزل 
ثم صعد إلى السيارة وأغلق الباب خلفه كأنه يغلق فصلا كاملا من الرواية وانطلق دون أن يلتفت 
وقفت سيرين في مكانها تتلقى برودة الهواء وضوء الألعاب النارية المتساقط من السماء كحطام حلم لم يكتمل لكن الغريب أنها لم تشعر بالحزن لم تبك لم تنكسر 
بل ابتسمت بسخرية باهتة كأنها تسخر من نفسها
كم كنت حمقاء 
كادت أن تخبره عن نوح عن سرها الصغير المغروس كشتلة بين نبضها
لكنها صمتت وللمرة الأولى كانت ممتنة لذلك الصمت

تم نسخ الرابط